السبت، 17 سبتمبر 2016

خسارة الطبيب للحساسية ، الطريقة الذهنية للشعور من جديد

وأنت تكبر كطبيب هناك شعورٌ عامٌ من خروج الأشياء عن إرادتك ( أنت تكبر كطبيب لأنك تنضم للكلية في سن مبكرة  نسبياً ) هو ليس شعوراً سوداوياً بالعجز وقلة الحيلة ( على الأقل بعد أن تمارس الطب حقاً ) بل أقرب منه إلى نضوجٌ نفسي ومعرفي تعرف فيه مكانك في البيئة الإكلينيكية للمستشفى التي لا يخضع كل شيء فيها لتحكمك ( بصعوبة أي شيء )  ، وما يخضع حقاً يمر عبر سلسلة طويلة من الفاعلين والتي بدورها قد تبتلع ما أردته للمريض عند أي مرحلة فيها ،  كما إنك تُحجم إمكانيات الطب ( أو ما تعرفه منه ) وتصبح متصالحاً مع الدور التلطيفي والتحسيني الذي تلعبه المعرفة الطبية ( وأنت ) كل يوم في ذهابك ومجيئك من عملك ، و لكنك ومع ذلك ما زلت ممتناً  للوقت الخلّاب - و النادر- الذي تحسن فيها المعرفة الطبية وضع مريض بشكل جذري. 
تذهب للمستشفى كل يوم ، وقلما لا يكون على لستة المرضى الذين تمر عليهم مريضٌ على جهاز تنفس ، كبيرٌ في السن ، هشٌ ومليء بالأعطاب ، منومٌ بالأدوية و يبدو إنو كان على هذا الجهاز وبهذه الحالة منذ الأبد ( الأمر الذي تعرف أنه يحصل في المستشفيات والحياة ، لا أصمه بالسوء لأنه موجودٌ أكثر من أن تستاء منه كل يوم  لكنك تعرف أنه هناك وحسب ) 
تدخل في ذهنك الألفة ، وتبدأ في عقلك باستخدام أجهزة مفهومية متآلفة مع " منذ الأبد" التي تخص هذا المريض العجوز 
لتنجز عملك حولهم بصمت . 
كنت محظوظة بما يكفي لأشهد بضع " أبديات" قبل أن تحصل ، لأُحادث المريض وأثبت في ذهني حيويتهم وتفاعلهم وقدرتهم على الكلام والتحرك والإختيار ، أي عندما كانوا جد أحدهم أمه أو أباه الحاضر والفعّال ،  ثم أدخل عليهم مرة أخرى وقد أخذوا الصورة المألوفة التي يتصلون فيها بأجهزة التنفس غائبين عن الوعي ، ولأتذكر أني وقفت لألاحظهم على أسرّتهم وأفكر لنفسي إنه ما كان ليخطر على بالي " جِدة " حالهم هذا وفجائيته لو لم أراهم قبل أن تدهور صحتهم ، " كم كان ليبدو قديماً ومألوفاً هكذا ، كم كنت لأكون أقل رجاءً لو لم أره منذ يومين " 
لا أقول أن مآلفة التدهور ، واستبعاد الأبدية من وجدان أحدهم الطبيب كان ليحسن حالة هؤلاء المرضى ، وبالتأكيد أن صحة الكبار وتدهورها بشكل درامي ليس أمراً يُرجى العودة منه في كثيرٍ من الأحيان ، لكنه المكان الصغير الذي يختلط فيه استسهال الإهمال مع اليأس من التحسن ، والذي بدونه تكون العناية بهم أكثر معنى و أقرب للعاطفة التي تُسهّل تحريك موارد المستشفى وإن قاومتك هذه الموارد باستمرار .

الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

طفلةُ نفاذ الوقت

يسحب نفساً متعباً تتابعه بنظرها ، تشعر أنها ألقت حُنواً ما ، تتحفظ في النظر ، ترسم تعابيراً أكثر طبيعية وتتشاغل بيديها ، 
ينظر إليها بطرف عينه ، يُعجزه إستلقاؤه على السرير أن ينظر إليها بأكثر من عينيه ، تتابع الأنفاس المُتعبة ، ويستمر في الصمت ، تشعر بصدرها يضيق ، يختلط عليها الشعور ، يبهت إلى اللاشيء ثم يعود فيلبس أثواباً أخرى أكثر تميّزاً وتحديداً ، 
" ربما أشعر بالحزن "  تحدد الشعور في نفسها ، تستبين شلالاً صغيراً وحاراً خلف قفصها الصدري ، وتسحب نفساً عميقاً . 
كانت الأشياء لطيفة وسخية كان الهواء حُلوا وعشبي الرائحة ، وكانت تُلقي براحة كفها في يده ، لأنه - و لنواجه الأمر - هذا أسهل على يديها الصغيرتين من أن تقبض بيد الأب طول الوقت "  كنت أدعه يحمل يدي ، وكان هذا مريحاً وداعياً لنبذ الجهد "  

كان يوماً صيفياً ، ذهبا فيه إلى حديقة الحيوانات تبرق الصور الفتوغرافية في ذاكرتها، تبتسم للصور . 
كانت المرأة تلبس قبعة دائرية مُلفتة الحجم وثوباً صيفياً قد راق لعينيها الطفلتين ، كانت المرأة - مثل الأب - تحمل يد طفلٍ ما ، بدا شقياً وكثير العناد ، تذكر هذا من إنحناء القبعة على الطفل مراراً ، ومن ثم إلقاء الطفل بوزنه على الأرض عندما كانت القبعة تسحبه خلفها .  
تذكر نفسها بنت السبع سنين ، تذكر أبيها ، مُحباً وحالماً وأباً شاباً كثير الإندفاع في الحب و التدليل ، تذكر أن خلافاً دبّ بينهما ، وكيف أن ذاتها المراهقة كانت كثيرة التأمل فيه ، ومن ثم خائبة الأمل ، تذكر كيف تغيّرا ، ولِم ، وكيف ما عاد من يحمل يدها إلى حديقة الحيوان - وفي هذا الشأن-  خلال أي شيءٍ من أمور الحياة .
تلقي عليه نظرة من مقعدها الآن ، مُتعب ومريض وقليل البقاء على وجه الإستيقاظ ، ترتفع مرارة في حلقها ، فتؤنب نفسها على استحضار ما لا يفيد . 
  تتلفت المرأة فجأة ، " أذكر أن هذا أتى ونحن أمام قفص السباع ، أذكر  أني حاولت التركيز على الحيوانات ، لكن ضوضاء المرأة وجلبتها قد أخذت تركيزك  ، ولذلك تركيزي ، تابعتها بنظري ، تابعناها سوياً ، تكاد تبحث هرولةً ، وفي كل إتجاه ، ما كنت أهتم  ، كنت سعيدة وآمنة وشاعرة بالحظوة ، وكانت كفي مُعلقةً بكفك بدفء ، وكانت مخلوقات الأقفاص مثيرة للفضول ، عدت للحيوانات "  
عادت لهذه الغرفة ، بدت المرأة وطيدة الصلة الآن ، بدا هلعها قريباً وذا معنى ، كان وقتها ينفذ ، وطفلها يغيب في الشر كلما ابتعد الوقت الذي أضاعته فيه ، 
 كان وقتها ينفذ ، وكان العزيز ينسل من الحياة في هذه اللحظة التي تجلس فيها هنا ، تفرز المشاعر وتتكلف مسامحة الأخطاء وتحتار كيف تكون كلمات الوداع ، 
 تتذكر بحدة هلع المرأة ، يصبح هلعها ، تدور القبعة  في أرجاء الحديقة بيأس ، يدور رأسها وتتابع ضربات قلبها ، تخرج ذكرى المرأة من مكانٍ قصي في الذاكرة ، فتُصبح القبعة وينفذ الوقت ، وفي مكان ما يمسك أبٌ شاب حالم بيد طفل شقي في الحديقة . 

الثلاثاء، 8 مارس 2016

المعاني الكبيرة ، الحواجز الكبيرة

    " لا أمر يحث على الاستمرار بهذه الحياة ما لم تخلقيه بنفسِك .. " 
اليوم هو يوم المرأة العالمي ، كتب أحدهم هذا إشارة للمناسبة .. 
بالمُجمل ؛ أنت من يخلق المعاني كلها لنفسك ، مِم تستقِ معانيك؟ 
البحث عن المعنى مَهمة فطرية وفي صلب كل الأشياء  بذات القدر التي  تستطيع أن تكون به  تافهة ومُهملة  وعلى هامش الوجود ... تقف وراء كل الأفعال ، في نفس الوقت الذي تستطيع أن تُجنبها فيه بكل ارتياح متناولاً كل فعلٍ في يومك على أنه الفعل وحسب. 

أجدني أستخدم اقتباس البدء منصةً لشيء آخر ، منصة للتساؤل عن ما إذا كنا نستطيع حقاً أن نمضي في أيامنا دون هذا التوقف خارج الفعل وخارج السياق للبحث عن معنىً واسع يضم افعالنا كلها سوياً ، 
يمزح جورج كارلن - أو لا - فيقول :" 
" الحياة ليست بهذا التعقيد : تستيقظ من نومك ، تذهب للعمل ، تأكل ثلاث وجبات ، تتبرز لمرة واحدة جيدة في اليوم ، ما اللغز اللعين في هذا؟ "
كارلن يسخر من بؤس الشخص العصري ، من تساؤلاته وبحثه المتهافت عن المعنى الكبير والشامل خلف الأشياء .
من الرمادية الكئيبة التي قد تحملها معك ثقيلة طول اليوم متسائلاً عن مغزى هذا الفعل أو ذاك بالذات نسبةً إلى وجودك الكبير .
ماذا أريد أن أقول ، ربما أريد أن أقترح معنىً أقل؟
أن ألمح إلى أن إيجاد المعنى والتفكّر بما نقوم به كل يوم بصفته خادماً لهذا المعنى أو لا قد يكون وصفة بؤس محكمة ، طريقاً يقف فيه هذا المعنى الذي نريده بشدة بيننا وبين أفعالنا اليومية البسيطة واللازمة وغير ذات البال إذا نظرنا إليها بعين المعنى العظيم ؟ 

ربما يكون العزاء في الخفة وربما تكون السعادة في تقبل فكرة أَن لا معاني يجب حقاً أن تُخلْق طول الوقت ، وأن هذا السعي الحثيث نحو المعنى الكبير لا يجب أن يكون ملزماً أو هاجساً أو حتى يومياً ، أن الإنسياب على وجه الأرض شافٍ بِما يكفي وجميلٌ بما يكفي سواء استعان  بالمعنى الذي نبحث عنه لتوجيه هذا الإنسياب أم لا .