الخميس، 20 يونيو 2013

حلقاتنا المفرغة ..الوعي بالنمط


 

البشر مخلوقات شاسعة ، وعندما أقول شاسعة فأنا أعني كل شيء بخصوصنا

نحن نتمشى هنا وهناك ونحن نحمل في أنفسنا عوالم شاسعة ، بعضنا فطرياً يتكئ على عالمه الداخلي لينظر في نفسه وفي شؤون الحياة أكثر من غيره من الناس لكن كلنا بالتأكيد نحمل هذه العوالم داخلنا ، العوالم التي تطفح بالأفكار والمعتقدات والهواجس ..

ونحن أيضاً وبدرجات متفاوتة حبيسوا  أنماطٍ معينة من أفكارنا ، وأنا هنا لا أعني أفكاراً  ثقافية أو تربوية

إنما أعني أفكارنا الشخصية اليومية البسيطة وأمانينا العابرة ( أو التي نعتقد لوهلة أنها عابرة ) بينما لو توقفنا للحظة لعرفنا أنا هذه هي المرة الألف والستمائة وسبعون بعد المليون التي تخطر لك فيها هذه الفكرة بشأن هذا الأمر المعين

ومن اللطيف أنك مع العشرة _ وإذا كنت مستمعاً جيداً _ فإنك أيضاً تستطيع التعرف على أنماط الآخرين وسجون أفكارهم و لربما صحت في صديقك في نوبة ملل بأنك يا فلان لا تملك إلا هذا الموضوع وهذا الموضوع وهذا للموضوع للحديث فيه ..

إن قدرتنا على تكرار أنفسنا عجيبة ، ولهذا بالذات فإن قدرة الحياة ( أو التاريخ )  على تكرار نفسها أمر عجيب أيضاً

وإن إحباطً حقيقاً يكمن في أن تخطر على بالك فكرة معينة أو هاجس معين لتفاجأ لاحقاً ( ربما عن طريق الصدفة إذا عدت لقراءة مذكرة قديمة لك اذا  كنت من النوع الذي يكتب المذكرات ) بأن هذه الفكرة ليست المرة الأولى التي تخطر على بالك ،  وأنها ليست أصيلة أو جديدة بالنسبة لك كما تعتقد ، أو أن هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها بتكرار خطأ ظننت أنك تعلمت الدرس منه جيداً في حياة سابقة

وعلي القول أن في هذا شيء من الطمأنينة أيضاً ، فبعد كل شيء لا أحد حقاً يستطيع العيش مع نفسه أو مع الآخرين إذا لم يكن قادراً ولو بطريقة ضبابية أن يحزر شيئاً من الطريقة التي ستؤول إليها الأمور ، كما أن مخاوفنا تغدو أقل شيطانية عندما نردد على أنفسنا أن هذه ليست المرة الأولى التي شعرت /تعايشت  فيها مع هذا الخوف .

إلا أن مسؤولية معينة تقع على عاتقنا مسؤولية كبيرة وصعبة أيضاً  وهي أن نحاول التعرف  قدر المستطاع على سجون أفكارنا  ونحاول قدر المستطاع كسر أنماطنا الداخلية  و  فك حلقاتنا المفرغة التي راكمناها داخلنا دون أن نشعر و على مرور الأيام  ،

 لماذا؟

لأن الحياة أوسع مما نتخيل ، لأن عالم الأفكار كبير جداً ، ولأنه من العار أن يمتد المحيط أمامنا شاسعاً وكبيراً وخلاباً وماجداً بينما نموت نحن حين يحين وقتنا في نفس البرك الراكدة القديمة المألوفة والمملة التي لم ننجح يوماً في الخروج منها أو حتى اكتشاف حقيقة أنا كنا عالقين فيها لوقت طويل جداً

الأحد، 2 يونيو 2013

في معنى التأجيل ، حزن اليوم اللأخير

الإنهماك أمر حسن .. الإنهماك أمر جيد ،  لطالما صدقت هذا ..

قرأت في مكان ما عبارة عامية طريفة كان مفادها هو إحساس " الوهقة " الذي تشعر به عندما تخصص وقتاً معيناً لمشاعر معينة ثم تفاجأ بانتهاء المشاعر هذه " مبكراً " وتتورط أنت بالوقت الوفير المتبقي بين يديك
تخطر على بالي هذه العبارة اليوم  .. 
عندما أعود بذاكرتي للوراء محاولة تذكر أي حدث مهم حصل لي خلال سنة مضت أجد أن أمراً مشتركاً يربط بين هذه الأحداث  ... لقد كانت مؤجلة بطريقة ما . 
كفتاة ذات طبيعة مزاجية ، كفتاة ذات انتاجية تتبع طبيعتها المزاجية فإن مسألة تطويع مشاعري وحياتي الداخلية كان أمراً لزاماً عليا أن أتعلمه خلال السنوات الفائتة
مهمة قاسية أن تفعل الأشياء بيد واحدة ، ويدك الأخرى ممسكة بلجام عواصف داخلية  ورعود و بروق ..

من أين يأتي إنهاك اللحظات الأخيرة ؟
من أين تأتي حرارة تنهيدة الإنتهاء دون أن تكون سعادة حقيقية أو ضحكاً هستيرياً ؟
التعب أمر ذهني
أنت تقرر أنك متعب
أنت تنام جيداً كل يوم
أنت تنام أكثر من اللازم حتى
من أين أتت فكرة أنك متعب عن سنة كاملة ؟
أنها تأتي من المشاعر المؤجلة  .  من كل المشاعر التي توقفنا  عندها مراراً طيلة سنة كاملة وقلنا بيننا وبين أنفسنا "  ليس  هذا وقت هذا "  ، و" سأتذكر أن آخذ وقتاً لأحدّ على  هذا لاحقاً  "
احساس عجوز
احساس أنك شعرت ( أو لم تشعر ) ما يكفي عن سنة كاملة
احساس  يشبه نوعاً لذيذاً و مطمئناً من الحداد ، حزن مسترخي ، و ساكنٌ سكون مياه راكدة .
وقليلٌ من الخوف  .. وقليل من الخوف أن ينتهي الإحساس " مبكراً " و " تتوهق " أنت بل وتصاب بقليل من الكآبة لأن ما أجلته وقتاً طويلاً لم يأت على وجهه الكامل حين أذنت له أن يجيء
أستغرب الآن وبعد أن كتبت هذا أني قد سألت نفسي في وقت سابق عن السبب الذي أكون كئيبة فيه آخر الأيام ؟
" لم لا أفرح وحسب ؟ "
الآن سيبدو غريباً إن ( لم ) أحزن عندما ننتهي
الإنهماك أمر حسن

الإنهماك أمر جيد ، لطالما صدقت هذا ، ولطالما سأصدقه ،  لكن ما تدفنه لا يفشل في أن يضع لك ملاحظة صغيرة  تقول " سأعود عنما تنتهي " قبل أن يختفي تحت كومة إنشغالاتك وإنهماكك الحقيقي أو المفتعل .. 

الأربعاء، 10 أبريل 2013

تسعة أفلام لا أحبها ..تدوينة بدون هدف


لا  أحب الأفلام الممطرة ، التي يتعين فيها على البطل أن يخوض الكثير من الوحول .

لا أحب أفلام الحركة التي يتعين علي فيها أن أشاهد عددا كبيراً من السيارات تقتحم عددا لا نهائياً من الأبواب الزجاجية .

لا أحب أفلام الحروب ، المعاصرة منها تحديداً . التي يجب أن تستمع فيها لحوار الأبطال بين ضجة أصوات الرصاص .

لا أحب أفلاماً تتمحور حول حيوانات أليفة ، كأنه ينقصني أن أفك شفرات الحديث الجاري بين قرد و ببغاء .

لا أحب أفلام باتمان وسبايدرمان ، سوبرمان .. الكثير من الملابس المطاطية ..

لا أحب أفلام الكوارث الطبيعية ( زلازل براكين فيضانات أعاصير عواصف ) ، أعني .. الكثير من المشاهدٍ التي تهتز وترتجف طول الوقت ؟

لا أحب أفلام الفضائيين ، حيث يُحبس مجموعة من الأشخاص في مكان موحش ما مع كائن فضائي يلتهمهم واحداً واحداً ( بادئاً بالشخص الذي ذُعر أولاً وقام بحركة دنيئة لينجو بنفسه )

لا أحب أفلام أبطال الرياضة ، خصوصاً إن لم أفهم قواعد الرياضة .. أنا لا أفهم قواعد البيسبول ، كرة السلة ، الركبي ، الهوكي ... أنا لا أفهم قواعد معظم الرياضات .

لا أحب أفلام بوند ..جيمس بوند .. ( لم كان لزاماً عليه أن يكون مُدوخاً للنساء؟ وماذا عن كل تلك المعدات الجاسوسية ؟ بالله عليك . )

 

 

صوت خافت  يرد بنبرة ساخرة  " أمال إيش تحبي أنتي ؟ "

وأرد

" امممم مدري .. أحبك أنت يا عيوني "  

 بنبرة ساخرة أيضاً

الأحد، 31 مارس 2013

مارلين مونرو ..التي تصف ولا تشرح



قروبنا الدراسي يتكون من عشرة فتيات خمسة منهن كن دائماً أصدقاء من أولى أيام الكلية ، و الخمسة الآخرين كانوا صديقات فيما بينهن  وجمعتهم بنا ترتيبات الكلية التي أوعزت إلينا إدارتها بضرورة تكوين هذه المجموعات لأغراض الدراسة وسهولة التواصل

أيا ما يكون بقيت العلاقات النووية داخل المجموعة كما هي بترتيب ثلاثة إثنين خمسة ( ومع توزيع نووي أصغر داخل مجموعة الخمسة فتيات التي كنت أنا منهن ) وباعتبار إن كل واحدة فينا على حدى كانت ذات طبيعة دراسية جادة وميول إجتماعية أقل فإن اندماجنا تطلب وقتاً ، و باعتبار أن تكوين علاقات إجتماعية ليس بالضبط على قائمة الأولويات والتوجهات لدى أي واحدة منا فإن الوقت الذي تطلبه لم يكن باعثاً على الدهشة تماماً

ومن المفارقة أيضاً أننا اقتربنا من بعضنا البعض عندما أصحبت الدراسة أسهل ، وبات ممكنا على إحدانا أن تظهر بعض  أصول اللياقة الإجتماعية والرغبة في التواصل وقد خف عن كاهلها حمل الشراسة وسوء الخلق الذي كانت تبعثه الدراسة فينا  ( أعرف جعلت الأمر يبدو سيئاً ههههه  لم يكن بهذا السوء حقيقة )

أياً ما يكن ، تعمقت صداقتي بإحدى فتيات الضفة الأخرى مؤخراً ، وهي ليست صداقة أتوقع لها /منها  الكثير في المستقبل ( ليس الأمر أني أتوقع شيئا كثيراً من الصداقات بشكل عام )  لكن هذا لم يمنعها أن تُثير بضع الأشياء والتأملات في نفسي و بالتأكيد ... هذه التدوينة

صديقتي مُدهشة تماماً ، مدُهشة بطريقة استغربت معها أني لم أنتبه لها طيلة الوقت الذي كانت فيه  في مع مجموعتنا ،  وكل هذا لم يظهر تماماً إلا في ضوء المقارنة الذهنية ، المقارنة بي أنا شخصياً  والتي كانت مدفوعة بعفوية التباين الجم الذي يظهره أدنى تواصل بيننا

وجدت أني أتجه للعالم الخارجي بافتراض مسبق وهو أنه لا يَفهم ، وبالتالي فأني على مستوى لا واعي مني دائماً ما أحاول شرح شيء ما ،  باستفاضة واستطراد وشغف ، الكثير من الكلمات ، الكثير من الانسكاب ، وحس عارم بالمسؤولية ورغبة النقل التفصيلي لكل شيء على " وجهه الحقيقي "  ، كأن الأمر أني أقف على حاجز وأحاول بمجهود وتعب نقل الأشياء عبره لكل الأشخاص في الجهة المقابلة .
 بطبيعة الحال هذا يجعل الاستماع لأي قصة أرويها عملية فوضوية وفيضاً  من المشاعر والكلمات والتلويح بالأيدي و الإجابة عن أسئلة لم تطرح بعد و الاستدراك لما لا يلزم استدراكه ، وفي الوقت الذي أغوص فيه في بحر داخلي كبير لأقوم بتواصل إنساني ما ، لا يبدو على صديقتي أنها تمر بنفس العملية ، وكانت هذه ملاحظة جوهرية وأصيلة بالنسبة لي

صديقتي ولنسمها " إيمان " ليست فتاة صامتة ، وبرغم هذا فكلماتها قليلة جدا ، و  مماسية جداً ، و دائماً ما تمر محاذيةً للموضوع  لكنها لا تفشل في أن تُريك صلبه ، هي ليست صديقة التفاصيل ، لكن التفاصيل تصلك بطريقة ما

و في الوقت الذي تقول فيه عشرة كلمات ، تقول  إيمان  ثلاثة .  بخفة و تركيز و نبرة " نظيفة " .. وأنتهى

كل هذا أكسبها هالة مارلينية ما ( من مارلين مونرو )  وخامة من الدلال الضبابي النادر الذي لم أتوقع له وجوداً خارج الإطار المبتذل الذي تتبناه الفتيات ، هالة ما زلت أستغرب أني لم ألتقطها مباشرة من أولى جلساتنا ،

الأهم من هذا كله أن هناك شيء مريح في في إيمان ، وأعرف الآن أن منبعه وإن لم تكن هي واعية بذلك هو هذا الافتراض المطمئن ( وغير المتعمد ) بأن " العالم من حولنا يفهم ويرى " وأننا نستطيع  أن نكتفي بالإشارات البسيطة المختصرة وأن نتخلص من هذا العبء المزيف الذي يولد بعضنا به ، ألا وهو مهمة شرح الأشياء للعالم باستفاضة وتوسع  .

أغلب ما نقول لا يحتاج أن يقال ، والعالم أذكى كثيراً مما نظن ، وأكثر دراية من قبل أي شرح ، ونحن نصير أقل تبعثراً و إجهاداً عندما نضع هذا في اعتبارانا  ونتعلم أن " نُلهم "  أكثر ونشرح أقل

 



 

 
________________________________

 تبقى أسئلة  تثيرها هذه التأملات مثل : لماذا يولد بعضنا هكذا ؟ راغبين في الكلام والشرح وشاعرين بالمسؤولية هذه تجاه كل شيء بينما يولد آخرون أكثر هدوءاً وأقل جلبة نفسية من هؤلاء ؟ وقبلاً ، هل نولد هكذا أصلاً ؟ أم أننا نُربى لنكون هكذا ؟  وقد تصلح هذه التدوينة كجزء أول من تتمة تتحدث عن هذا الجانب أكاديمياً  ( أساتذة يشرحون الأشياء باستفاضة وفي بعض الأحيان زيادة عن اللزوم وبطريقة قد تكون عن غير قصد مُربكة ومُزعجة لنا نحن الطلبة بينما ينجح آخرون بكلمات أقل وفوضى أقل )

الخميس، 14 فبراير 2013

في معنى الحقيقة : تدوينة عاطفية


أؤدي الآن رقصة السعادة

بصدق لا أذكر آخر مرة كنت فيها منتشية هكذا

أشعر بالمعنى ، أشعر بالقدسية ، أشعر أن شيئاً قد كان مفقوداً  أتخذ مكانه بدقة في صدري ، كأن قطعة حجرية كبيرة قد  وُضعت في بقعتها المفصلة بدقة على مقاس أضلاعها بل وأصدرت ذاك الصوت المحبب الذي يصدر عن الأشياء عندما " تُركب"  في مكانها الصحيح . " كلِك " !

إحساس لذيذ ، إحساس رائع .. أنا أصر عليك حقاً أن تتوقف الآن وتشاركني الرقص

أنتهينا من الرقص ؟

ممتاز ، دعني أشرح لك الآن ماذا حدث /يحدث

سعادة كهذه الي أشعر بها الآن هي وفي حقيقة  سعادة منشأها إحباط سري استطعت تطويره على مدى الخمس السنين السابقة ، وإن أتينا للتأمل فإن السعادة لا تُحس بأنها سعادة وذات طعم سكري إلا إذا أتت بعد كثير من الطعوم المقرفة و المرة ، الطعوم التي – وأضمن لك بشدة – أني تذوقتها بانتظام

 أمر بديهي إذا أن يكون من قوانين الحياة أن تكون السعادة بحجم المشقة التي تجشمتها في طريق الوصول وأن تكون الألوان القاتمة هي النقيض الذي يزيد الألوان السعيدة نصوعاً وظهوراً

يا للكليشيه ، ما علينا . أنا أحاول شرح شيء هنا

إحباطي يتلخص في إيجاد الحقيقة ، وعندما أقول أني " أريد أن أجد الحقيقة " فإن هذا ليس مدللاً على شيء بقدر دلالاته على إيماني العميق بزيف الأشياء وقلة المعنى ، لفترة طويلة ( نسبياً ) وأنا أؤمن بحق أن هناك مساقة معتدلة بين الأشياء وبين تصوراتنا عنها ، أن لا شيء وأعني لا شيء ، لا تعبير أو لغة أو نص مكتوب يمكن أن يقبض على جوهر الحقيقة ويطوي المسافة بين جوهر الأشياء وبين طرقنا الإنسانية في التعبير عنها ونقلها للغير

وأن واجبي الإنساني والمعرفي هو أن أخوض في كل هذه التعبيرات والتصورات المحسوسة عن شيء ما دون أن أسلم  أنها هي ذات الشيء وأن من الحكمة  تحري تضييق المسافة بين ما يُعبّر عن الشيء وبين ذاته وإن لم أصل كلياً لهذه الذات و هذا الجوهر

هذه النزعة تتأكد عندك عندما تشاهد نشرات الأخبار ( لاسيما إن كانت ذات توجهات سياسية غير محايدة ) ، عندما تقرأ أي كتاب ،و عندما تحاول فك شفرات أي تعبير إنساني عن الحقيقة أو عن " الحدث "

وبالطبع ، دراسة الطب لم تساعد . لم ؟ ومن المفترض أن العلوم الطبيعية تمتاز دوناً عن العلوم الأخرى بابتعادها عن الشخصية و  الرأي الصرف واعتمادها اعتماداً كلياً على تحليل البيانات وصياغة نتائجها في منظومة من الحقائق التي يُفترض بها أن تطابق الواقع ؟

أليست دراسة علمٍ يُفترض فيه المطابقة للواقع كفيلاً بالقضاء على هذه النزعة ؟ وتوفير الكثير من الاستقرار العاطفي الذي يأخذه هذا الافتراض المتشكك والمُكذب لكل شيء ؟

حسناً ليس بالضرورة

في دراستي وجدت إشكالاً كبيراً ، وجدتني مُجابهة بكل هذه النصوص الطبية  وبكل هذه الخطوط الإرشادية والتقنينية التي يفترض بها أن تعبر عن الحقيقة ، وعن الواقع .

وما أعجبني هذا الأمر ، إذ أنني شعرت أن الواقع هو أعقد بكثير من هذه النصوص ، وأن الأمور على الطبيعة أكثر تشابكاً وتداخلاً ، وأن محاولة تقنينها بهذا الشكل السطحي هو فقط ذهاب في المحاولة المستميتة للتعبير عن الواقع إلى أقصاه ومع ذلك الفشل في نقله نقلاً كاملاً وحقيقاً

وأنه ما زال علي واجب قطع تلك المسافة ( التي بدت كالمسافة بين السماء والأرض ) بين ما تمثله هذه النصوص وبين كينونته الحقيقية على الأرض و على الطبيعة ،

بدت الأمور عبثية ، بعيدة عن الواقع ، مُفرطة في الانغماس الساذج في تقنينها وتصنيفها أكثر منه في محاولة فهمها ولمسها على الطبيعة ،  " هذا جسم كائن حي يا جماعة غير معقول أن أقيسه بالقلم والمسطرة " هكذا قلت في نفسي

لكن احزر ماذا يا شريك الرقص ؟

هذا ليس صحيحاً ، هذا ليس دقيقاً ، والمسافة يا صديقي أقصر مما تخيلت والحقيقة قريبة قرباً تستطيع معها لمسها بيدك ولا أصدق أن عبرة السعادة تخنقني وأنا أكتب هذا ( سِنف سنِف )

والفضل في هذا يعود إلى فواز ، مريضي العزيز في عنبر الأطفال ، الذي استلمت مهمة تلخيص حالته الصحية وأعراض مرضه  ( بعد كتابتها بخط اليد ) إلى الطبيبة التي تشرف على مجموعتنا ( كجزء من الواجبات المقررة لمادة طب الأطفال )

كانت لحظة سحرية أظني أني لن أنساها في حياتي تلك اللحظة التي قرأت فيها عن المرض الذي أتى به هذا الطفل ، كانت الأعراض مفصلة على مقاس السطور ، وكأن طبعة الكتاب القديمة هذه استحالت معجزة ما وهي تلخص الطفل الذي أمامي في بضع صفحات ، اكتسبت الأسطر قدسية ما ، مهابة ما ، كأني ولأول مرة ألمس الحقيقة بيدي وبت قادرة على احتضانها والإيمان من جديد ، بالحقيقة وبالعلم وبالبشر وبكل شيء

لا ، لم يكن فرحاً ساذجاً برؤية شيء قرأت عنه في كتاب ، كان أعمق من هذا بكثير ، وكان تأثيره أقوى بكثير ، شيء ما حصل في تلك اللحظة التي قرأت فيها تلك الأسطر ، شيء لن أكون بعده نفسي مرة أخرى ، على الأقل نفسي القديمة بكل قلقها المعرفي المثير للجنون

درامية ها ؟

ربما قليلاً ، لكن لدي عذر الفالنتاين أليس كذلك ؟

نبض قلبي اليوم ..  وأشعر به و بامتنان ممتلئاً و مستقراً في صدري ،














*



للزملاء في الكلية ، يعاني مُلهمي فواز ذو السبع سنين من Henoch–Schönlein purpura بكل أعراضه الكلاسيكية

 

الثلاثاء، 4 ديسمبر 2012

طلبة الطب : مأزق المعرفة و المعنى


 

هناك شيء غير صائب بشأننا .  خطأ تكويني ودقيق جداً ، شيء يجعلنا مزيفين و هشين جداً وغير قادرين على تملك قوة التحكم بأمور بسيطة وقول ما نعرفه عندما يتطلب منا الأمر أن نقوله

هذه  تصريحات قاسية جداً بشأن الوسط الي عشت فيه خلال الأربع السنين السابقة ، لكن أياً يكن  أسمعني قليلاً

 

بدأ الأمر حين نظفت غرفتي ووجدتني أمام أكوام من الملازم والدفاتر والأوراق المتناثرة والتي كان لزاماً عليا أن أزيحها عن الطريق وأفرغ مكانها لأشياء أخرى أحق بالمساحة ، الأمر الذي لم أستطع فعله لفرط ما أشعر بالذنب عند رمي أشياءٍ كنت أحفظ منها معلومة ما والنتيجة كانت جبلين أبيضين كبيرين فوق مكتبي من الأوراق لتي لم أتخلص منها لكنني أيضاً لم أعد لأقرأها قط

أذكر أني كتبت في مكان ما يومها ملاحظة تقول  "  لازم أتخلص من الشعور بالذنب اللي أحس بيه لما أرمي ورق ذاكرت منو ، لازم بطريقة ما أقتنع  أن هذا المكتوب في الورق لا يمثل المعرفة  ، ولا يضمنها "

وورد سؤال حينها :

إذا لم تكن المعرفة هي الاطمئنان الذي أشعره بشكل لا واعي عندما ألمس التجسيد المادي لهذه المعرفة ( مو كلام معقد ، عزيزتي إلي عندها اختبار وما ترتاح إلا لما تكون مشترية الورق كاملاً مكملاً حتى لو أنها دخلت الاختبار وهي ماهي مخلصة تلاتة أرباعو  )  إذا لم تكن المعرفة هذا إذن ما المعرفة ؟

 " ربما تكون القدرة على الجواب وعلى نقل هذه المعرفة "   فكرت .. لكن هذا بدا أضيق مما ينبغي ،  قد أكون ببغاءً  رائعة لكن هذا لا يعني بالضرورة أني أعرف أليس كذلك ؟

 " المعرفة إذن أن نستطيع فعل شيء بهذه المعرفة " قلت في نفسي ، ثم بدا لي هذا الخاطر أضيق مما ينبغي أيضاً

فإذا كانت المعرفة هي أن أغوص في بحر كبير ، ثم لا آتي إلا بالأشياء القابلة للتطبيق بشكل مادي ومحسوس فما فائدة كل ذاك البحر إذن ؟ و لم هو موجود ؟ (  وما فائدة من العملية العبثية التي نمر بها خلال دراستنا متمثلة في أن ندرس كل شيء ثم لا نتذكر حين نبدأ حياتنا المهنية إلا ما يعيننا على  " الفعل " فقط ؟ )

وعلى أن اقتصار المعرفة على شكلها التطبيقي والمادي هي فكرة معزية لي إذ أنني  لست متصالحة مع جهلي كثيراً ولا مع حقيقة أني أحتاج حياة فوق حياتي لأعلم ، و أنني قد أنتهي بعد حيواتي المتعددة التي أفنيتها في " طلب العلم "  إلى أنني "  لا أعلم شيئاً  " ،   برغم العزاء في هذه الفكرة إلا أنني أجدها أيضاً ناقصة وعبثية إلى حد كبير ..

لكن دعك من هذا كله

دعك من هذه الأسئلة كلها

وماشيني في السؤال التالي :

لماذا نحن  ( كطلاب ، بل وكطلاب طب سعوديين )  نبدو عاجزين جملة عن تبني المعرفة المركزة ، المركزة بحق  في أكثر أشكالها بديهية وسهولة ؟

لماذا نقيء كلماتٍ متقاطعة وجملاً غير مفيدة ( وغير مترابطة أحياناً ) ( ومغالطة في أحيان أخرى )  إذا صرنا في موقع التصريح أو عرضة للسؤال ؟ لماذا لا نعبر عن ذوات مستقلة فكرياً ( هذا إذا كنا نملكها من الأساس) ؟  أو بشكل آخر  لماذا لا يبدو أن  هذه المعلومات النظرية تأتي لتضيف شيئاً لهذه الذوات  ؟ ذوات عاقلة وقادرة على الخيار  ؟  لا أن  تتصلب وتشكل قناعاً سميكاً يمنعنا من رؤية الواقع وربما أبسط الملاحظات التي كنا لنراها لو لم نكن مشغولين بالعدسة السميكة على أعيننا والتي أسميناها " معلوماتنا " ؟ ومن ثم نصير مستعدين لصرف الواقع والتغاضي عنه في سبيل الإبقاء على الأشكال الجامدة للمعرفة في رؤوسنا ( النصوص غالباً ) رغم أن أهل العلم ذاته يبدون أكثر مرونة في تبني نتائج جديدة إذا أتى الواقع بخلاف درر الكتب ؟

أقول التالي وأنا أنأى بنفسي عن أي نوايا مترفعة ومدعية للكمال :

أن الأزمة التي نمر بها كطلاب طب هي وفي المقام الأول أزمة معنى ، و نحن عاجزون لسبب ما ( بل أسباب كثيرة لا أريد الخوض فيها ) عن تبني المعنى الذي تدلل عليه الألفاظ ، ونحن و بشكل كبير مسجونون داخل هذه الألفاظ ونحتمي بها بشراسة كبيرة في محاولة إثبات حصادنا المعرفي الذي من المفترض أن تكون هذه الكلمات دليلة عليه دون تلمس أو محاولة تبصر حقيقية للكينونة التي تقع خلف هذه الألفاظ  .
 ويتبدى هذا ويصير غير قابل للشك عندما نصير - فوق قصورنا التعبيري عن إيصال المعنى -  عاجزين عن الفعل أيضاً

الأحد، 25 نوفمبر 2012

المرأة في مقلب القمامة ، المرأة في غرفة العمليات


-هذه التدوينة مكرسة لأطراف النقيض والتي برغم وقوفها على جهتين متقابلتين هي في النهاية تُفضي إلى نتيجة واحدة

وبؤس إنساني واحد ،

 - إلى ماذا أيضا؟

إلى كل الموارد المركزة في بقعة واحدة حد أن تضر وتكون شراً ، و تكون شحيحة ناقصة في بقعة أخرى و ;  نقصها نقص وشر مماثل

- وإلى من ؟

إلى تلك المتشحة بالسواد في ذلك المقطع على اليوتيوب التي أشار المذيع إلى قطعة الخبز العفنة في يدها وسألها و هي تقف على مقلب القمامة " إزاي تاكلي دي ؟ " فردت " أصلي بنشفهم تحت الشمس "

 


.......

أنا الليلة في مزاج شاعري ، و استنتاج كالذي سأقوم به الآن هو-  -وتبعاً لوضع كاتبته - شاعري أيضاً  أو فلسفي  في أحسن الأحوال

وقفنا اليوم على رأس مريضة ، طاقم جراحي كامل إضافة إلينا نحن المتدربون والطلبة . وخلال الساعتين والنصف وهي مدة العملية كاملة كنت على موعد مع لقطاتٍ على مستوى عالٍ من الحسية / استلهام الحواس  ..

المريضة كانت كبيرة الحجم  ولا يحتاج منك وقتاً في غرفة العمليات قبل أن تعرف أن الطبيب بصدد إجراء عملية لتكميم المعدة .

عكف الجراح و عيوننا من فوق أكتافه على العمل داخل أحشاء المريضة ، اكتست الشاشة بالألوان ، زهري للمعدة بني للكبد ، أصفر و وأبيض لكل الشحوم الداخلية التي تحيط بهما  وبالطبع لمعة أعمدة الحديد التي تدخل وتخرج بصفة دورية إما لتقص شيئاً أو تزيح آخر ..

أدخل الجراح عمودا حديدياً طويلاً ينتهي بقاطعة تطبق على اللحم ومن ثم تطلق صوتاً متتابعاً كرنين منبه ثم تفصله عن الكتل الشحمية البيضاء المتصلة به ..

صوت المنبه ، تطبق القاطعة ، يبتعد الشحم عن اللحم

صوت المنبه ، تطبق القاطعة ، يبتعد الشحم عن اللحم

ينزف وعاء دموي صغير ، يتغير صوت المنبه ، تغير القاطعة مهمتها و تقوم بكي الشريان . يتوقف النزيف

يدخل الجراح عمودا حديدياً آخر  أستقر في نهايته طرفٌ بكماشة  ، يعض  الطرف الشرير على جانب المعدة ، يقص من خلالها ويترك أسلاكاً حديدية متعرجة على حافة مقصوصة و مكوية بعناية

يَخرُج الجزء المقصوص من المعدة ويلقيه الجراح على المنصة قربه

قطعة من آدمي . قطعة حقيقية من آدمي حقيقي أعطى إذناً لأحدهم أن يخرجها من داخله لأن حياته بها صارت أصعب وأكثر بؤساَ  وعصية على حلول أكثر رأفة ..

وعند نقطة ما ، نقطة لا أستطيع مركزتها على وجه التحديد أخذت التجربة  منحى غير أكاديمي بالنسبة لي ، منحى عاطفياً و أخلاقياً .. منحى غاضباً قليلاً ومُشعِراً بالضيق  

يا للمعدن والحديد الذي دخل إلى أحشاء تلك المريضة ! يا للقص !،يا للكي ! يا للخياطة ! يا لخوف التخدير ! ومن ثم الإستلقاء بضعف وطواعية أمام أغراب ! يال ويال ! 
 ياللجوع َوياللشبع ..
و يا لبؤس كليهما ، ويا لحقيقة أنه بؤس  وإن كان هذا يبحث عن الطعام في مقلب القمامة وهذا يبحث عن الشفاء في مشرط الجراح ..